بين يدي شعر لشاعر تتهادى روحه بين كلماته ونبرات صوته العذب الذي يكاد أن يكون بحد ذاته قصيدة تنساب مع كل حرف وذلك الإحساس المرهف الذي ليس بينك وبين أن يفيض بأبيات رقيقة سوى أن تخدش ذلك الإحساس سريع النزف لتفيض القريحة بالنزف فيأتي عذباً .
عندما تقرأ له فحتماً أنك ستتذوق شعراً نبطياًّ أصيلاً وستنتقل إلى عبق الماضي الجميل ولكنك عندما تسمعها من فمه فلسوف تحس بروحه الشفافة جاثيةً أمامك تناجيك وتترجم لك نفسها فلقد رثى فأبكى وتغزل فأسر ومدح فأوفى ووصف فأجزل فما أجمل التصوير حينما صور انفطار روحه بعد رحيل من يسكن داخل قلبه في قوله :
أقفى ضنينٍ داخل القلب نزال
أقفى وروحي عقب ما شد فطرها
وعندما قال :
كل العذارا عقب زين التعزال
علي حرامٍ لين آرد حفرها
هنا تشعر بمدى ما يذهب إليه خيال الشاعر المتفاني صاحب القلب الوفي بوفائه النادر الوفاء الذي طالما افتخر وتغنى به الشعراء على مر العصور وفاءً قرأناه ولم يتسنَّ لنا أن نراه حقيقة في عصر انقلبت فيه المفاهيم وقلت المباديء السامية .
أما حينما تقرأ له قصيدة يا دار فكأنه وقف على الطلل وقوف الشعراء الكبار وهو يقول :
يا ليت عزرائيل جتني مراميـه
واللحد ضم الجسم من قبل فرقاه
أقفى فؤادي والمحاديب تتليـه
يوم الضعن قدام عيني تمطـاه
راح الغضي والقلب بالترب ناسيه
هاتوا فتاين واحيوا اللي تمنــاه
ويدهشنا هذا الشاعر بحبه البرئ النقي العفيف فما أروع هذا القلب الذي وهب روحه لمن يحب وما أجمل حنينه إلى محبوبته فتاين التي خلبت لبه وسلبت عقله وظل وفياًّ لها وما فتئ يذكرها وما أجمل تغنيه بإسمها وترديده على مسامعنا في كل قصيدة نقرأها له أو نسمعها من فيه فعندما يتغنى بها بأحد قصائده كأنه يعزف أجمل مقطوعة موسيقية بريئة وخالية من كل شيء إلا الحب المصاحب لكل حرف في نوتته الرائعة والتي لا يمكن أن تُعزف إلا من عبدالعزيز لفتاين فحينما يقول :
يا فتاين روّفي قبل الرواح
واسعدي قلبي قبل قصف العمر
فهو يذكرنا بقيس بن الملوح وجميل بثينة وعنترة بن شداد وابن النهدي وعروة بن حزام .
ثم يعود فيذكر مراتع الصبا وحبه لتلك المرحلة التي تركت أثراً كبيراً في حياة شاعرنا فتجده يتغنى بأماكن عزيزة على قلبه وكأنه يعيد ذاكرته ليعيش حبه القديم وحنينه إليه فتارة يذكر الأثلة وتارة يذكر بيت الطين الذي ولد فيه وكم مرة ذكر الحيالة وعبقها بشكل يجعلك تشتاق إلى أن تراها من شدة الشوق الذي وصفه لها وروعتها فهو يقول :
جيت الحيالة والعمر به بواقيـه
أبْي التسلي بالزراج الضميـه
وألفيت مغناها هدامٍ مبانيه
واغراب بينٍ ينعق أعلى البنيه
ويذهب به خياله إلى أبعد من ذلك فهو يود أن يمن عليه خياله بلقاء عابر لمن يحب وكأنه لم يفقد الأمل من لحظات لقاء تعيد إلى شفاهه البسمة التي أحس أنه فقدها من أعماقه :
قالت تدرع بالصبر وافهق الياس
لا بد في يومٍ تزول اللواهيب
بل هو يظن بأنه سيتحقق ما يحلم به يوماً عندما يبتسم له كل شيء فما زال يغادر الأعين ويغيب عن الأضواء ليختلي بعبق مكان حبه وكأنه ترك قلبه وروحه هناك فيزوره كلما جذبه الحنين إليها فياله من حب وياله من محب .
ارجع يابو خالد وأرح قلب منصاب
وأطفال تنشد وين به غاب خالي
ويأتي شاعرنا بما يحرك عواطفنا ويستجدي دموعنا عندما يذكر توأم روحه أخوه عبدالله (أبو خالد) الذي لازمه أكثر سنين عمره وشاركه فرحه وحزنه والذي كانت وفاته صدمة حقيقية لقلب شاعر مرهف فكانت ثالثة الأثافي لقلبه الذي يصطلي من حبه لفتاين وحبه لأيام صباه فكما كان يتغنى بمحبوبته ويتجرع غصص فراقها ذلك الحب الذي لم يتتوج بلقاء ولم يذهب مع الرياح بعد الابتعاد عن الأطلال وطول الزمن بل كان يزيد وتزيد جمرته حيناً بعد حين ولا ينقص ومع هذا لم ينس أخاه أبا خالد بل ظل يذكره بقصائده وخواطره بشكل يجعل من يستمع إليه يشفق لحاله إنه يرسم أنبل لوحة من لوحات الوفاء لأخيه كما رسم وما زال يرسم ذلك لمحبوبته الذي كان أحياناً يتمنى ولو رشفة من ريقها المعسول بل ربما تمنى استنشاق رائحتها الندية والتي قد تداوي ولو شيئاً يسيراً من عذابه شوقاً وحباًّ ولهفةً ذلك العبق الملائكي الخاص والمميز نفسه عبقاً لا يتكرر مع غير فتاين ود لو امتلكه لوحده فلن يتجرأ بالتفريط فيه وبالمقابل وبنفس الجموح يذكر حبه لأخيه وإن اختلف النوعان فحبه لفتاين حب يتغلغل في روحه ويندمج حد الانصهار عشق لا يمكن أن يتجزأ ولا يمكن تحليل مكوناته وحبه لأخيه حب الروح الملازمة لروحه وحب مسامر لمسامره يشكو إليه بثه وحزنه ويتكئ عليه ذاخراً له ومتباهياً به أمام نفسه قبل الآخرين .
أترك القارئ الكريم يغوص في حنايا الشاعر المميز / عبد العزيز محمد التويجري بين أبياته العذبة وأسلوبه الخاص .
كتبها الشاعر الدكتور
سليمان بن عبد الله المطوع
9/ 7 /1430 هــ
يتبع .....