نظر إلى السماء وهي تتلبَّدُ بالغيوم ، فاحتذى حذاءه ، وأوصد الباب خلفه ، وأخذ يجول في سككِ القرية التي هجرها بعض أهلها إلى المدينة حتى قادته قدماه دون وعيٍ منه إلى منزل شجرة الليمون في طرف القرية التي هجرها أهلها ومضوا عنها إلى المدينة !
أصاخ سمعه لصرير الباب وهو يفتحه ، ثم نظر إلى عرصة الدار المليئة بالغبار وبعض أغصان شجرة الليمون المبعثرة وأوراقها المتساقطة !
دلف إلى الداخل وبدأ التجول فيه متأمِّلًا متذكِّراً ما مضى ، عندما كان البيت آهلًا تخفق بين جوانحه السعادة ، ويَنْضَحُ من عِطْفَيْه الأنس والبهجة !
خطى بضع خطوات ووقف أمام العمود ونظر إلى العش في التجويف الخشبي أعلاه ، وتذكر كيف يصعدون إليه ويأخذون العصافير التي فيه ويذهبون بها إلى أمهاتهم ليذبحنها لهم ويطهينها !
تبسم ونقل ناظره إلى الميزاب في الحائط الذي يتناوبون القفز والمرور منه عندما يسيل منه ماء المطر !
أطال التأمل والتذكر ، ثم قال : ما الذي حداني على العوج على مغاني الصبا ومنزل شجرة الليمون مذْ ريعاني حتى كهولتي ؟!
ما الذي حداني إلى ترك مغنى الصبا وملتقى الأتراب في جهة الشمال والحضور إلى البقعة الخالية الصغيرة في الجنوب ؟!
ما الذي حداني على النوم في الفناء قرب الحائط الغربي ، وجعل رأسي إليه ؟!
ثلاثون عامًا مذْ ظعنتِ من القرية وأنا لم أنس ذلك المحيا الجميل ولا المنزل الذي ضمَّكِ عطفاه ؟!
ثلاثون عامًا وفؤاد الحنين يثعبُ دمًا لا يرقأ !
ثلاثون عامًا وأنياب النأي تقطر منها الدماء !
انسابتْ الدموع على وجنتيه وهو يتذكر ما كان في عطفي هذا المنزل والقرية من الأنس والسرور والتئام الشمل ، ونقاء القلوب ، وتكاتف الجيران ، وسارة التي كان يراها تمثال البهاء والحياء !
استدار ومضى إلى شجرة الليمون في آخر الفناء الشمالي الغربي ووقف أمامها ، وقال : أحببتكِ حبًّا تجاوز الجسد وسما إلى الروح ، حتى لو أن غيركِ بمسلاخكِ ما نظرتُ إليه فضلًا عن أن أحفل به !
يا الله ! كم أودُّ من كل قلبي أن أعود ذلك الطفل الذي ينسلُّ من مغنى ملتقى أترابه في الجهة الشمالية ، ويأتي إلى البقعة الخالية في جهة الجنوب لأنَّ منزلكِ هناكَ ! ولأنَّه يراكِ من النافذة تطلين فيُبهج ناظره بمحيَّاكِ العذب البديع ، وقلبه بالأماني التي ينسجها وينساق خلفها !
كم أودُّ أن أعود ذلك الطفل الذي يجلس تحت النخلة ليسرح مع أحلامه وأمانيه وأنتِ أعظمها وأعزها !
رفع رأسه إلى النافذة المطلة على شجرة الليمون ، وقال : لا شيء يعدلُ عند الكهل شروق الشمس وغروبها ، ورؤية الطيور العائدة إلى أكنانها ، ونسيم الصحراء والبحر في الليل ، وعبق الأثل وبيوت الطين والغيث المنهمر ، إلا رؤية محيَاكِ البهي ، ونجي حديثكِ البديع ، وصوتكِ العذب الذي ينساب في سمعه ويستقر فيه استقرار الطمأنينة في القلوب !
صمتَ قليلًا ورفع ناظره إلى الجدار المنثلم ، وقال : لم تُمْتَطَ صهوة جواد الوصل ! وها قد أكهلتُ فهل آن الأوان ؟! أم سيَنْبَتُّ رسَنُ الّلِجامِ ويمضي دون أن يُـمْتطى !
خرج يجرُّ قدميه جرًّا واتجه إلى الأثلة في آخر القرية واتخذ مجلسه أسفلها ، وبدأ يرقبُ السماء وهي تعبسُ ثم تكفهرُ ثم تزفرُ وتبتسمُ !
كانت هذه العادة لديه مُذْ أيفع لا يقطعها إلا حين يُقعده السَّقَمُ ، وحينها يجتمع عليه السقمان (سقم الجسد ، وسقم حرمانه من الأنس والسرور بجلوسه ومراقبته) !
كان يستروحُ عبير الأثل المخضلِّ من الغيث المنهمر ، ويقول : أي عبقٍ يعدلُ عبق الأثل المخضلة أغصانها وهدبها من الغيث المنهمر ؟!
أيعدله عبق لقاء الأحباب ووصلهم ؟!
هو والله منه وإليه ! فطالما اجتمعنا أسفلها واكتنَنَّا بها عن الغيث المنهمر ، وامتزج الغيث وما تساقط من الهدب بملابسنا ، وملأنا رئاتنا منه !
أم لحظات الوصال المختلسة من فم النأي ؟!
هي والله مكان اللقاء ، ومجلس الأنس ، ومأوى عنادل الهوى التي تشدو ألحان الحب وترانيم الوصل !
صمتَ قليلًا ، وأطرق برأسه وبقلبه يعتلج الذي أخرجه من العريش المسقف بجذوع الأثل وجريد النخل والجمر المضطرم في الموقد ، والقهوة والشاي ، والأثلة المنتصبة في عرصة الدار !
نظر عن يمينه فإذا الأرض منبسطة ممتدة لا يحدها سوى الكثبان الرملية ، ونظر عن يساره فإذا القرية تلوحُ له منازلها المتراصة صغيرة لبعد المسافة ، مد ناظره للأمام فرأى النساء يستعذبن الماء من النبع ، وعند الأثلة فتى وفتاة يتهامسان !
أطرق برأسه مرة أخرى فرأى زهرة صغيرة من الزهور الربيعية أقحمتْ نفسها بجانب جذع الأثلة ، وأطلَّتْ برأسها من بين هدبها المتساقط ! تبسَّم لهذا المنظر وأطال التأمل فيها ، ولم يفقْ من شروده إلا على يمامة تغرِّدُ ، فرفع رأسه إليها وقال : مضى الريعان ! وأوصدتْ دون الوصل ضِبَابُ الصَّرْمِ والنَّأْيِ والنُّزُوحِ ، ومكانكِ هذا وشدوكِ أولى به الغراب ونعيبه ! فقد مضى ما يؤبه له ويحفل ، ولم أعد أنشدُ إلا ما طال انتظاري له والله أعلم به ولن يخيب رجائي ويقيني !
لا أقول هذا من باب التشاؤم أو القنوط ! بل هو انصرام الريعان والشباب وقدوم الكهولة وتحفز الشيخوخة ! وأوان طيِّ الفراش والتأهب لذلك الموضع وذلك اليوم !
رفع رأسه ونظر إلى السماء متأملًا قطرات الغيث التي ينزلُ مع كل نقطة ملكٌ ليضعها في مكانها دون أن تمتزج بغيرها ، كان يتأمل بهذا الحديث الذي طرق سمعه وقدرة ملك الملوك الذي لا يعجزه شيءٌ ، فقال : لم آتِ إلى هذا المكان العزيز والأثلة المتأصلة في القلب للوصل واللقاء ، واختلاس ساعة أراها بها ، وإنما أتيتُ أبسطُ ضعفي وتضرعي ، وندمي على ما بدر !
أتيتُ للتودُّعِ من هذه المغاني ، وبسط يد الندم ، والرنو إلى السماء ، ورفع أكف الضراعة لعلَّ غافر الذنب قابل التوب يغفر لي ويقبل مني !
صمت قليلًا ، وأحد نظره إلى النبع ، وأراد المضي إليه ، ولكنه تردد ، ثم آثر البقاء تحت الأثلة والمشاهدة من بعيد ، وقال : لم يعد عزو ! بل أبو بسام ! ولم يعد الريعان بل الكهولة ! ولم تعد الفتوة بل الهدوء ! ولم يعد الرنُوُّ بل الإطراقُ ! ولم يعد اللهاث بل الإخلاد ! ولم تعد صلابة العريكة بل لينها !
سيقضي الكهلُ نحبَه ، وإنه لعلى يقينٍ بأن الحظَّ سيبتسم له ، وتشرق شمس السعادة ، ويبزغ بدر الأنس الذي طال انتظاره ، وأن الرحمن الرحيم حرمه الكثير من الأماني –التي زهد بها حين تقدم به العمر- ليحظى بأمنية عمره العظمى التي ينشدها منذ طفولته !
نعم ، سيمضي الكهل مبقيًا أطلال صباه ! مغاني طفولته ! فتنة قلبه ! بيوت الطين ! الأثل ! شدو الطيور ! غيث الشتاء وشروق شمسه وغَشْيُ ليله ! الأصيل ! التي أحبَّ الدنيا لأجلها !
سيمضي الكهلُ نادمًا على ما فرَّطَ فيه ، منيبًا إلى ربه ، سائلًا متضرِّعًا أن يغفر له ويتجاوز عنه ، وينظر إليه بعين الرحمة ويسكنه دار كرامته فضلًا منه وكرمًا !
سيمضي الكهل في ليلةٍ سرمدية كما أتى في ليلةٍ شديدة الغيهب ، مبتسمًا راضيًا حامدًا لله شاكرًا أن أتمَّ عليه نعمته وأسبغ عليه فضله !
سيقضي الكهل نحبه وستشدو الطيور سرورًا مازجةً بين الصبي ذي الشِّرَّة والكهل ذي الوقار !
ليمتد الجهام فغايته انبلاج الفجر ، ولتثر الزوابع فمداها السكون ، ولتربو القواصف فعقباها الهدوء ! ولتنعب الغربان فمآلها الصمت !
نهض من مجلسه واتجه صوب المقبرة في آخر القرية ، وجال بين رجامها الصامتة ، ورسومها الدارسة ، وهو يتذكر أحبابه الذين قضى معهم ردحًا من الزمن ، فمنهم من لبَّى النداء الأعظم ، وها هي بقايا رسوم ديارهم الدارسة ! ومنهم من شطتْ به الديار ومضى إلى حيث حطتْ به عصا التسيار ولقمة العيش ، فقال : متنا قبل أن تموتوا ، وسكنَّا أجداث الشجى ، قبل أن تسكنوا الرياض النضرة وتمتهدوا الزرابي والاستبرق –بإذن من وسعتْ رحمته السموات والأرض- ، وفاضتْ أرواحنا حنينًا قبل أن تفيضَ أرواحكم لرحمة الرحمن الجواد الأكرم !
مضى صوب الكثبان الرملية ، وهو يرى الليل مادًّا ذراعيه ، فقال : استقبلني الليل في أول قدومي إلى الدنيا ، وها هو يمد ذراعيه لاستقبالي في آخر المطاف !
لفه الليل بردائه ، وكان آخر العهد !