ارحلي :
رأيتُ في إحدى الليالي أن فتاين رحلتْ إلى جوار ربها فكتبتُ بها هذه :
ارحلي يا أجمل ما رأتْ عيناي وأطهر نسمة مرتْ بدنياي وخذي معكِ قلباً سيتبعكِ إلى ظلمة القبر يندبكِ ويبكيكِ .
ارحلي وخذي معكِ بقايا عمرٍ لم أعد بحاجة إليه لأنكِ آخر أمل كنتُ أعيش من أجله وقد واراه باطن الأرض وأبقى مرتجيه على ظهرها يلوكُ الحسرات .
ارحلي وخذي معكِ قلماً جف مداده وجسداً فارقته روحه وأملاً اغتالته رماح اليأس وفرحاً وأدته أيدي الشجن .
كنتُ فيما مضى أذرف دمعي شوقاً لمرآكِ وحنيناً للقياكِ وهأنذا الآن أذرفه بعد رحيلكِ إلى جوار مولاكِ .
لئن أقفر شعري ونثري منكِ بعد رحيلكِ فلن يقفر من ذكركِ لساني وشغاف قلبي من الحنين
إليكِ وستدثركِ دعواتي كل آن ويغشاكِ سلامي كل حين ولكِ علي عهد لا أخيس فيه أبداً إن أتتني ابنة أن أسميها باسمكِ لتتجدد أشجاني كل ما ناديتها .
جنتي التي لم أتفيأ ظلها وأرتوي من معين نهرها : سيبكيكِ الباكون ساعات قليلة والأحباب أياماً معدودة أما أنا فسأبكيكِ كل ساعة وأندبكِ كل لحظة وسيبقى رحيلكِ جرحاً ينهش بقلبي ويختصر ساعات عمري إلى أن أشرب الكأس الذي شربته وأسكن المنزل الذي سكنته .
شوقي
إليكِ أشدّ من شوق المعدم للثروة والسقيم للصحة والمحبوس للحرية والمقرور للاصطلاء والهيمان للورد والمذعور للأمن والأمان والشريد للعودة للأوطان والمحزون لموافاة السعد وزوال الأحزان .
شوقي
إليكِ شوق من أضناه التعب وأنهكه العطش فوجد واحة غناء عليها ظالم طاغي لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلاً فسقاه بضع قطرات ليزيد ظمأه وشوقه إلى الماء ثم ذاده عنه وسط المفازة المهلكة التي يحيط بها الموت من كل جانب .
بل
شوقي إليكِ شوق من نشأ في كنف موسر شفيق وعندما شب أخبره الذي آواه أن أهله يقطنون في قرية تبعد عنهم مسيرة عام كما تقول الرقعة التي وجدها معه يوم كان رضيعاً فأعد العدة وسار إليهم يحدوه الأمل بنيل المنى باجتماع الشمل والشوق يطوي الأرض من تحته طياًّ حتى إذا وصل المكان بعد عام من مقاساة السغب واللغب والظمأ رمته سهام المنون التي لا تخطئ فصرعته وهو على بعد خطوات من أهله فشوقي
إليكِ مثل شوق هذا إلى الحياة وإلى لقاء أهله ورؤيتهم .
سأنساكِ !
سأنساكِ
نعم سأنساكِ
أقسم برب زمزم والحطيم أن أنساكِ
ولكن
متى يحين موعد النسيان هذا ؟
إنه عندما تفارق روحي جسدي ويواريني قبري وبغير هذا لن يكون هناك نسيان وسلوٌّ بإذن الله .
عجباً والرب إنه لعجب أتطلبين مني أذكركِ وهل نسيتكِ لأذكركِ وأنتِ التي لولاها ما خفقت روحي بين جوانحي غير ما خفقت وما نبض قلبي غير ما نبض وما رأت عيناي نور الصباح غير ما رأته .
شربتُ هواكِ مع كل قطرة وتنفسته مع كل نسمة ورأيته بكل نظرة .
ربما إذا أَبَلَّ المريض من مرضه نسي ما ألم به وإن مر بخاطره شيعه بالسب والمقت أما أنا فطعنات الهوى وجراحه اللائي أثخنني أستعذبها وما زلت أستعذبها وسأستعذبها ما حييت بإذن الله لأنكِ مشرعة سيوفها ورامية نبلها فخذي بيدي لنعبر بحر الأحلام إلى جزيرة المحبة والسلام لنعيش في سعادة ووئام .
فَيَا حبَّها زِدني جَوىً كلَّ لَيلَةٍ
ويا سَلْوةَ الأيامِ مَوْعِدُكِ الحَشْرُ
سأقيم لهواكِ مراسم الفرح فاحفظي الود وارعي العهد وإن طوتني يد الردى قبل تحقيق المنى فسأرقد في قبري بسلام برحمة الله هانيء القلب قرير العين أنتظر البعث لنجتمع في جنان الخلد بإذن رب العالمين .