قيصر الكلم
08-20-2023, 01:17 PM
في أحد الأيام عندما ذهب السَّيِّدُ في نُزْهَةٍ مع عائلته بالقارب أخذت الكتابَ وذهبتْ إلى ضَريْحِ هاردل وقالتْ : ألْقَتْ بي عصا التَّرْحالِ في المدينة التي تَسْتَوْطنها ، فأضلَّتْنا سماءٌ واحدةٌ ، وأقلَّتنا أرضٌ واحدةٌ ، وضَمَّنا بلدٌ واحدٌ ، ولم تَشَأ الأقدارُ أن تَجْمَعَنا إلا بعد مَمَاتكَ ، وكم وددتُ لو كان اللقاءُ سَعيداً ، خَالياً من الشَّجن وذرْفَ الدموع ، تُبَادلني فيه التَّحيَّةَ والعناقَ ، لا لقاء كَهْلَةٍ لرِمَّةٍ باليَةٍ .
انْظرْ إليَّ ، لقد تَغضَّنَ وجهي ، وشابَ رأسي ، واحْدودبَ ظهري ، ولكن قلبي ظل كما عهدته في شبابه قلب الكاعب النابض بالحُبِّ والحنين إلى مرآك ، فوا أسفي ألا أَصلَ إليكَ إلا بعد فوات الأوان !وبعد مُواراتكَ الثَّرى !
لقد كتبْتُكَ بقلبي روايةً لا تَزول ، ونظَمْتُكَ قصيدةً لا تمَّحي ، ورسمتكَ لوحةً بديعةً لا نَظيرَ لها ، ووسَمْتكَ حُبَّاً لا تَطاله الأيامُ ، ولا تَنال منه ، وبعَثْتُكَ كلَّ يومٍ وليلةٍ أمنيةً إلى السماء .
لا تَعْلمُ كم اختلستُ النَّظرَ إليكَ وأنتَ مع سيرفال ، وكم راقبْتُكَ وأنتَ جالسٌ تحتَ الشجرة مع سيدرا تَتَحدَّثان وتُقَهْقهان ، ولا تَعْلمُ كم وددتُ لو أني رَسَمْتُكَ في ذلك العَهْدِ لأنْظُرَ إلى صُورتكَ كلَّما أرَّقني الحنينُ وأناجيها وأبثها ألمي وشجني ، ولا تَعْلمُ كم وددتُ لو أنَّكَ أخذتَ بيدي وجُلْنا حول الرَّابية ، وعَدَونا بجانب الجَدْول ، وتناولنا غداءنا تحت الشَّجرة ، واحتسينا الشاي عند السَّاقية ولكنها الأقدار .
ثم أسْبَلَتْ ناظريها ثم قالتْ: كم وددتُ لو عاد شبابي ! لأكْتُبَ فيكَ روايةً تَصلُ شُهْرَتها عنان السَّماء ، وتَسيرُ بذكرها الرُّكبان ، ولكن لي في قصَّتكَ التي أوْدَعْتها الكتاب الذي معي بعض السَّلوى ، وأنَّى لي أن أكْتُبَ في هذا العمر الذي أصبحتُ فيه على مشارف القبر ، فقد رَقَّ جِلْدِي ، وَوَهَنَ عَظْمي ، وَوَهَى جَلَدِي .
انْظُرْ إلى الطُّيورِ الشَّادية ، والجَدَاول الجارية ، والأشْجَارِ الباسقة ، والأزْهَارِ العابقة ، لكأن شَدْوها زفراتي وأنيني ، وجَرَيَانها دُموعي ، وبُسُوقها طول شجني ، وتَفَتُّحها تَفَتُّح أبواب الأمل التي لا تَلْبَثُ أن تُؤْصَد .¬
ثم صَمَتَتْ وأطالت الصَّمْتَ ثم قالتْ : اعذرني سأقولها فهي كالطَّودِ الأشَمِّ الذي يَكادُ يُخْمدُ أنفاسي .
ثم صمَتَتْ واسْتَجْمعتْ قواها لتقول الكلمة التي طالما أرادتْ قولها : حبيبي هاردل ، حبيبي هاردل ، حبيبي هاردل .
ثم جَثَتْ على ركبتيها وانْخَرَطتْ في البُكاءِ من جديدٍ ، ثم أخرجتْ صندوق الجواهر ومدَّته أمام الضَّريح وقالتْ : ها أنذا أُقَدِّمُ إليكَ أمانتكَ التي أعطيتني إياها في جزيرة النرمليلا التي قَذَفتْكَ الأمواجُ إليها مع قلبي الذي لم يَمْلكْهُ سواكَ ، وأَعدُكَ عند عودتي إلى المدينة أن أنْشُرَ كتابكَ الذي كتَبْتَه ، وأحْتَفظَ به تذكاراً إلى أن يُواريني ضريحي .
ثم وضعتْ صندوقَ الجواهر الذي أعطاها إياه هاردل في جزيرة النرمليلا ونَحَتَتْ على نَصْبِ قَبْرهِ هذه الكلمات : سَأُديرُ ظهري لكلِّ شيءٍ ، وأمحو من قلبي كلَّ ذكرى إلا ذكراكَ كما أدرتَ ظهركَ للدُّنيا ونعيمها ، وقضيتَ نَحْبكَ بهدوء بلا ضَجيجٍ ولا عَجيجٍ في مكانٍ ناءٍ لا أنيسَ لكَ به ولا حبيب ، ولم تُسَاعفْكَ الأقدار فتَقْضي نَحْبَكَ في دياركَ ومرابع طفولتكَ بين أهلكَ وأحبائك .
ثم رفعتْ رأسها وقالتْ : هاجرتَ كهجرة الطُّيور مع فارق أن الطُّيورَ تَعُود أما أنتَ فهاجرتَ بلا إيابٍ ، وتَوَارتْ شَمْسُ عُمركَ خلف وادي الغيابِ السَّحيقِ الذي لا أوبة منه ، وهاهي شمسي تُوشكُ على الأفول ، فقطار العمر يَمْضي في الطريق المرسوم له إلى مَحَطَّةِ النِّهاية بلا إياب .
انْظرْ إليَّ ، لقد تَغضَّنَ وجهي ، وشابَ رأسي ، واحْدودبَ ظهري ، ولكن قلبي ظل كما عهدته في شبابه قلب الكاعب النابض بالحُبِّ والحنين إلى مرآك ، فوا أسفي ألا أَصلَ إليكَ إلا بعد فوات الأوان !وبعد مُواراتكَ الثَّرى !
لقد كتبْتُكَ بقلبي روايةً لا تَزول ، ونظَمْتُكَ قصيدةً لا تمَّحي ، ورسمتكَ لوحةً بديعةً لا نَظيرَ لها ، ووسَمْتكَ حُبَّاً لا تَطاله الأيامُ ، ولا تَنال منه ، وبعَثْتُكَ كلَّ يومٍ وليلةٍ أمنيةً إلى السماء .
لا تَعْلمُ كم اختلستُ النَّظرَ إليكَ وأنتَ مع سيرفال ، وكم راقبْتُكَ وأنتَ جالسٌ تحتَ الشجرة مع سيدرا تَتَحدَّثان وتُقَهْقهان ، ولا تَعْلمُ كم وددتُ لو أني رَسَمْتُكَ في ذلك العَهْدِ لأنْظُرَ إلى صُورتكَ كلَّما أرَّقني الحنينُ وأناجيها وأبثها ألمي وشجني ، ولا تَعْلمُ كم وددتُ لو أنَّكَ أخذتَ بيدي وجُلْنا حول الرَّابية ، وعَدَونا بجانب الجَدْول ، وتناولنا غداءنا تحت الشَّجرة ، واحتسينا الشاي عند السَّاقية ولكنها الأقدار .
ثم أسْبَلَتْ ناظريها ثم قالتْ: كم وددتُ لو عاد شبابي ! لأكْتُبَ فيكَ روايةً تَصلُ شُهْرَتها عنان السَّماء ، وتَسيرُ بذكرها الرُّكبان ، ولكن لي في قصَّتكَ التي أوْدَعْتها الكتاب الذي معي بعض السَّلوى ، وأنَّى لي أن أكْتُبَ في هذا العمر الذي أصبحتُ فيه على مشارف القبر ، فقد رَقَّ جِلْدِي ، وَوَهَنَ عَظْمي ، وَوَهَى جَلَدِي .
انْظُرْ إلى الطُّيورِ الشَّادية ، والجَدَاول الجارية ، والأشْجَارِ الباسقة ، والأزْهَارِ العابقة ، لكأن شَدْوها زفراتي وأنيني ، وجَرَيَانها دُموعي ، وبُسُوقها طول شجني ، وتَفَتُّحها تَفَتُّح أبواب الأمل التي لا تَلْبَثُ أن تُؤْصَد .¬
ثم صَمَتَتْ وأطالت الصَّمْتَ ثم قالتْ : اعذرني سأقولها فهي كالطَّودِ الأشَمِّ الذي يَكادُ يُخْمدُ أنفاسي .
ثم صمَتَتْ واسْتَجْمعتْ قواها لتقول الكلمة التي طالما أرادتْ قولها : حبيبي هاردل ، حبيبي هاردل ، حبيبي هاردل .
ثم جَثَتْ على ركبتيها وانْخَرَطتْ في البُكاءِ من جديدٍ ، ثم أخرجتْ صندوق الجواهر ومدَّته أمام الضَّريح وقالتْ : ها أنذا أُقَدِّمُ إليكَ أمانتكَ التي أعطيتني إياها في جزيرة النرمليلا التي قَذَفتْكَ الأمواجُ إليها مع قلبي الذي لم يَمْلكْهُ سواكَ ، وأَعدُكَ عند عودتي إلى المدينة أن أنْشُرَ كتابكَ الذي كتَبْتَه ، وأحْتَفظَ به تذكاراً إلى أن يُواريني ضريحي .
ثم وضعتْ صندوقَ الجواهر الذي أعطاها إياه هاردل في جزيرة النرمليلا ونَحَتَتْ على نَصْبِ قَبْرهِ هذه الكلمات : سَأُديرُ ظهري لكلِّ شيءٍ ، وأمحو من قلبي كلَّ ذكرى إلا ذكراكَ كما أدرتَ ظهركَ للدُّنيا ونعيمها ، وقضيتَ نَحْبكَ بهدوء بلا ضَجيجٍ ولا عَجيجٍ في مكانٍ ناءٍ لا أنيسَ لكَ به ولا حبيب ، ولم تُسَاعفْكَ الأقدار فتَقْضي نَحْبَكَ في دياركَ ومرابع طفولتكَ بين أهلكَ وأحبائك .
ثم رفعتْ رأسها وقالتْ : هاجرتَ كهجرة الطُّيور مع فارق أن الطُّيورَ تَعُود أما أنتَ فهاجرتَ بلا إيابٍ ، وتَوَارتْ شَمْسُ عُمركَ خلف وادي الغيابِ السَّحيقِ الذي لا أوبة منه ، وهاهي شمسي تُوشكُ على الأفول ، فقطار العمر يَمْضي في الطريق المرسوم له إلى مَحَطَّةِ النِّهاية بلا إياب .